كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح بالأمر بإيفاء العهود، وذكر تحليلًا وتحريمًا في المطعم والمنكح واستقصى ذلك، وكان المطعم آكد من المنكح وقدمه عليه، وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإنسان وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض، استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه سبحانه وتعالى، ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا تمكن إلا بالطهارة، بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء، وذكر البدل عنه عند تعذر الماء.
ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام، جاءت العبارة: إذا قمتم أي: إذا أردتم القيام إلى فعل الصلاة.
وعبر عن إرادة القيام بالقيام، إذ القيام متسبب عن الإرادة، كما عبروا عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الأعمى لا يبصر أي لا يقدر على الأبصار، وقوله: {نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين} أي قادرين على الإعادة.
وقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} أي إذا أردت قراءة القرآن لما كان الفعل متسببًا عن القدرة والإرادة أقيم المسبب مقام السبب.
وقيل: معنى قمتم إلى الصلاة، قصدتموها، لأنّ من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصدًا له، فعبر عن القصد له بالقيام إليه.
وظاهر الآية يدل على أنّ الوضوء واجب على كل من قام إلى الصلاة متطهرًا كان أو محدثًا، وقال به جماعة منهم: داود.
وروى فعل ذلك عن عليّ وعكرمة.
وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة.
وذهب الجمهور: إلى أنه لابد في الآية من محذوف وتقديره: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، لأنه لا يجب الوضوء إلا على المحدث، ويدل على هذا المحذوف مقابلته بقوله: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} وكأنه قيل: إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا هذه الأعضاء، وامسحوا هذين العضوين.
وإن كنتم محدثين الحدث الأكبر فاغسلوا جميع الجسد.
وقال قوم منهم: السدي، وزيد بن أسلم: إذا قمتم من المضاجع يعنون النوم.
وقالوا: في الكلام تقديم وتأخير أي: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء أي الملامسة الصغرى فاغسلوا وجوهكم.
وهذا التأويل ينزه حمل كتاب الله عليه، وإنما ذكروا ذلك طلبًا لأن يعم الإحداث بالذكر.
وقال قوم: الخطاب خاص وإن كان بلفظ العموم، وهو رخصة للرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه ذلك، فأمر بالسواك، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث.
وقال قوم: الأمر بالوضوء لكل صلاة على سبيل الندب، وكان كثير من الصحابة يفعله طلبًا للفضل منهم: ابن عمر.
وقال قوم: الوضوء عند كل صلاة كان فرضًا ونسخ.
وقيل: فرضًا على الرسول خاصة، فنسخ عنه عام الفتح.
وقيل: فرضًا على الأمة فنسخ عنه وعنهم.
ولا يجوز أن يكون: فاغسلوا، أمرًا للمحدثين على الوجوب وللمتطهرين على الندب، لأنّ تناول الكلام لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية قاله الزمخشري.
فاغسلوا وجوهكم، الوجه: ما قابل الناظر وحده، طولًا منابت الشعر فوق الجبهة مع آخر الذقن.
والظاهر أنّ اللحية ليست داخلة في غسل الوجه، لأنها ليست منه.
وكذلك الأذنان عرضًا من الأذن إلى الأذن.
ومن رأى أن الغسل هو إيصال الماء مع إمرار شيء على المغسول أوجب الدلك، وهو مذهب مالك، والجمهور لا يوجبونه.
والظاهر أن المضمضة والاستنشاق ليس مأمورًا بهما في الآية في غسل الوجه، ويرون ذلك سنة.
وقال مجاهد: الاستنشاق شطر الوضوء.
وقال عطاء، والزهري، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، وإسحاق: من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة.
وقال أحمد: يعيد من ترك الاستنشاق، ولا يعيد من ترك المضمضة: والإجماع على أنه لا يلزم غسل داخل العينين، إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه.
وأيديكم إلى المرافق، اليد: في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب، وقد غيا الغسل إليها.
واختلفوا في دخولها في الغسل، فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها، وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب.
وقال الزمخشري: إلى، تفيد معنى الغاية مطلقًا، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل.
ثم ذكر مثلًا مما دخل وخرج ثم قال: وقوله: {إلى المرافق وإلى الكعبين} لا دليل فيه على أحد الأمرين انتهى كلامه.
وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينة دخول أو خروج فإنّ في ذلك خلافًا.
منهم من ذهب إلى أنه داخل، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل، وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين: وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل، فإذا عرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر.
وأيضًا فإذا قلت: اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد إلى هو داخل الموضع الذي انتهى إليه المكان المشتري، فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشتري، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز، فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء.
فإذا لم يتصوّر أن يكون داخلًا إلا بمجاز، وجب أن يحمل على أنه غير داخل، لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثمّ قرينة مرجحة المجاز على الحقيقة.
فقول الزمخشري: عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج، لا دليل فيه على أحد الأمرين، مخالف لنقل أصحابنا، إذ ذكروا أنّ النحويين على مذهبين: أحدهما: الدخول، والآخر: الخروج.
وهو الذي صححوه.
وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف، ويكون من المجمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام.
وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين، فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه.
وقال ابن عطية: تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال: إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها، فإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط بعطى أنّ الحد آخر المذكور بعدها، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل.
فالرّوايتان محفوظتان عن مالك.
روى أشهب عنه: أنهما غير داخلتين، وروى غيره أنهما داخلتان انتهى.
وهذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني فقال: إنْ لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم.
والظاهر أنّ الوضوء شرط في صحة الصلاة من هذه الآية، لأنه أمر بالوضوء للصلاة، فالآتي بها دونه تارك للمأمور، وتارك المأمور يستحق العقاب.
وأيضًا فقد بيّن أنه متى عدم الوضوء انتقل إلى التيمم، فدل على اشتراطه عند القدرة عليه.
والظاهر أنّ أول فروض الوضوء هو غسل الوجه، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الجمهور: النية أولها.
وقال أحمد وإسحاق: تجب التسمية في أول الوضوء، فإن تركها عمدًا بطل وضوءه.
وقال بعضهم: يجب ترك الكلام على الوضوء، والجمهور على أنه يستحب.
والظاهر أنّ الواجب في هذه المأمور بها هو مرة واحدة.
والظاهر وجوب تعميم الوجه بالغسل بدأت بغسل أي موضع منه.
والظاهر وجوب غسل البياض الذي بين العذار والأذن، وبه قال: أبو حنيفة، ومحمد، والشافعي.
وقال أبو يوسف وغيره: لا يجب.
والظاهر أنّ ما تحت اللحية الخفيفة لا يجب غسله، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي: يجب وأنّ ما استرسل من الشعر تحت الذقن لا يجب غسله.
وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك والمزني: يجب.
وعن الشافعي القولان.
والظاهر أن قوله: وأيديكم، لا ترتيب في غسل اليدين، ولا في الرجلين، بل تقديم اليمنى على اليسرى فيهما مندوب إليه من السنة.
وقال أحمد: هو واجب.
والظاهر أنّ التغيية بإلى تقتضي أن يكون انتهاء الغسل إلى ما بعدها، ولا يجوز الابتداء من المرفق حتى يسيل الماء إلى الكف، وبه قال بعض الفقهاء.
وقال الجمهور: لا يخل ذلك بصحة الوضوء.
والسنة أن يصبّ الماء من الكف بحيث يسيل منه إلى المرفق.
{وامسحوا برءُوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} هذا أمر بالمسح بالرأس، واختلفوا في مدلول باء الجرّ هنا فقيل: إنها للإلصاق.
وقال الزمخشري: المراد إلصاق المسح بالرأس، وما مسح بعضه ومستوفيه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه انتهى.
وليس كما ذكر، ليس ماسح بعضه يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه، إنما يطلق عليه أنه ملصق المسح ببعضه.
وأما أنْ يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه حقيقة فلا، إنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز، وتسمية لبعض بكل.
وقيل: الباء للتبعيض، وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة حتى قال بعضهم، وقال من لا خبرة له بالعربية.
الباء في مثل هذا للتبعيض وليس بشيء يعرفه أهل العلم.
وقيل: الباء زائدة مؤكدة مثلها في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد} {وهزي إليك بجذع النخلة} {ولا تلقوا بأيديكم} أي إلحاد أو جذع وأيديكم.
وقال الفراء: تقول العرب هزه وهزّ به، وخذ الخطام وبالخطام، وحز رأسه وبرأسه، ومده ومد به.
وحكى سيبويه: خشنت صدره وبصدره، ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد، وهذا نص في المسألة.
وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسح الرأس، فروي عن ابن عمر: أنه مسح اليافوخ فقط، وعن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه، وعن ابراهيم والشعبي: أي نواحي رأسك مسحت أجزأك، وعن الحسن: إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها.
وأما فقهاء الأمصار فالمشهور من مذهب مالك: وجوب التعميم.
والمشهور من مذهب الشافعي: وجوب أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح، ومشهور أبي حنيفة والشافعي: أن الأفضل استيعاب الجميع.
ومن غريب ما نقل عمن استدل على أنّ بعض الرأس يكفي أن قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم}، كقولك: مسحت بالمنديل يدي، فكما أنه لا يدل هذا على تعميم جميع اليد بجزء من أجزاء المنديل فكذلك الآية، فتكون الرأس والرجل آلتين لمسح تلك اليد، ويكون الفرض إذ ذاك ليس مسح الرأس والأرجل، بل الفرض مسح تلك اليد بالرأس والرجل، ويكون في اليد فرضان: أحدهما: غسل جميعها إلى المرفق، والآخر: مسح بللها بالرأس والأرجل.